21‏/12‏/2008

ترجمة إلى العربية لمقال الرفيق جنيدي عبد الجواد

ترجمة عن الفرنسية لمقال صادر بجريدة الطريق الجديد يوم 5 ديسمبر 2008
بإمضاء جنيدي عبد الجوّاد

قفصة : مؤشرات محاكمة غير عادلة
انطلقت يوم الخميس 4 ديسمبر 2008 محاكمة المناضلين عدنان الحاجي، بشير العبيدي ورفاقهم الموقوفين إثر التحركات الاحتجاجية لأهالي الحوض المنجمي بقفصة(*)، بحضور ملاحظين تونسيين وأجانب جاءوا ليعبّروا عن مساندتهم لضحايا القمع وللقضية العادلة لمتساكني هذه الجهة المحرومة رغم ما تنتجه من خيرات.
وقد حضر بالخصوص ممثلون عن نقابتي الـ CGT و Sud-Solidairesمن فرنسا، وعن "الفيدرالية الديمقراطية للشغل" و"المنظمة الديمقراطية للشغل" من المغرب وعن "النقابة الوطنية المستقلّة لمستخدمي الوظيفة العمومية" من الجزائر، ومسؤولون نقابيون وطنيا وجهويا من الإتحاد العام التونسي للشغل (محمد السحيمي وحسين العباسي عن المكتب التنفيذي، وعمارة العباسي والناصر العجيلي ومحمد المسلمي عن الاتحادات الجهوية لقفصة والقيروان وبن عروس، والكاتبين العامين للنقابة العامة للتعليم الثانوي والنقابة العامة للتعليم الأساسي)، كما حضر وفد هام من "المبادرة الوطنية من أجل الديمقراطية والتقدم" (المتكوّن بالخصوص من حركة التجديد والحزب الاشتراكي اليساري وحزب العمل الوطني الديمقراطي) ووفد من "الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات" ومن "الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان" وغيرهما من منظمات المجتمع المدني.
وقد اعترض سبيل جلّ هؤلاء الشخصيات منذ خروجهم من العاصمة فجر يوم 4 ديسمبر 2008 في طريقهم إلى قفصة، عدد كبير من الحواجز البوليسية قبل أن يتمكنوا من الدخول إلى قصر العدالة بعد المساعي الحثيثة التي قام بها محامو الدفاع ورئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان لدى وكيل الجمهورية بقفصة.
أمّا المتهمون، فكان عددهم 38 منهم من كان معتبرا "في حالة فرار" مثل محيي الدين شربيب، القاطن بفرنسا،. وكانت التهم الأساسية الموجهة ضدّهم في منتهى الخطورة ولا تمتّ إلى الواقع بصلة. فهي لا تقوم على أفعال حقيقية ملموسة، بل بنيت أساسا على "اعترافات" انتزعت في مقرات الشرطة عن طريق العنف والاعتداء الجسدي الذي عاين آثاره حاكم التحقيق نفسه ودوّنها في تقريره.
وقد ألحّ المحامون على أن "مخلفات التعذيب مازالت موجودة ! وأنه يتعيّن القيام باختبار طبّي !" لكن المحكمة غضّت الطرف بتجاهلها لهذا المطلب المشروع وبرفضها الاستماع إلى الشهود الذين طلبهم الدفاع، بمن فيهم مرتكبي جريمة التعذيب الذين ظهرت أسماؤهم في محاضر التحقيق. ومن البديهي بالنسبة إلى الموقوفين ولسان الدفاع، وكذلك بالنسبة إلى كل قضاء مستقل غير خاضع لسلطة تنفيذية لا تعبأ كثيرا بقواعد التراتيب القانونية، فإنه لا يمكن أن يقبل محضر استنطاق إلا إذا تم تحريره دون أي إكراه مادي أو معنوي.
إن الاعترافات المنتزعة، وهي في غالب الأحيان مشبوهة وغير جدية بل مضحكة في بعض الحالات، ليس لها أي مصداقية في نظر من يبحث حقا عن معرفة الحقيقة، كل الحقيقة، خاصّة إذا نسبت هذه "الاعترافات" المشكوك في صحتها إلى مناضلين نقابيين ومواطنين عرفوا باستقامتهم ونزاهتهم وبتعلقهم بالحوار، ونجحوا رغم كل العراقيل في منع التجاوزات وفي إبقاء غضب الأهالي، بمدينة الرديف بالخصوص، في حدود تحرك سلمي ومسؤول وفي إطار مطالب معقولة وبنّاءة، كما نجحوا على هذا الأساس في فتح مفاوضات مع السلط العمومية.
وإنّه من المفروض أن تعتبر هذه الاعترافات لاغية وغير مقبولة وأن لا تأخذها المحكمة بعين الإعتبار إذا كانت تتمتع حقا بسلطة القرار المستقل في هذا النوع من المحاكمة السياسية. فهي فعلا محاكمة سياسية لأنها تضع في قفص الاتهام حركة مشروعة ضد الحيف والرشوة والبطالة ولأنها تجرّم التضامن مع هذه الحركة عوض تجريم التعذيب ومرتكبيه ومن يأمر به، في الوقت الذي يُحتفل فيه بالذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وليس المحامون، في هذه المحاكمة، محامين عاديين في قضية "حق عام" مزعومة، ولم يكن إحساسهم بالتعاطف أو الوازع الإنساني هو العامل الوحيد الذي قادهم إلى الدفاع عن "منوبيهم"، بل تجاوز ذلك بكثير إلى حماس فياض غمر 92 محاميا تطوّعوا للدفاع عن الضحايا، وانحازوا لهم، وتبنوا قضيتهم، ووقفوا إلى جانبهم باعتبارهم صوت الذين يرزحون تحت نير الظلم ويعانون من عمق الحيف الاجتماعي.
لكن لسان الدفاع لم يجد ما يساعده على القيام بدوره، بل كل شيء، على العكس من ذلك، جاء ليعطل مهمته ! بما في ذلك تغيير مكان اعتقال بعض الموقوفين بصفة منافية للقانون من سجن قفصة إلى سجن القصرين وهو ما جعل ممارسة حق الزيارة بالنسبة إلى عائلاتهم ومحاميهم أمرا أشدّ عسرا. وحتى يتمكن المحامون من التغلّب على هذه العراقيل والدفاع عن كل موقوفي الحوض المنجمي، فقد تجنّدوا لمواجهة كل الصعوبات بشجاعة وكفاءة. وعملوا دون هوادة من أجل رفع العراقيل وفضح التجاوزات التي أدخلت الشكّ في عدالة المحاكمة، بقطع النظر عن حسن الاستعداد الظاهري الذي أبداه القضاة.
وقد كشف المحامون، بناءً على وقائع ملموسة، التجاوزات الخطيرة التي اقترفها عناصر من الأمن في تحضير المحاكمة، من ذلك الاحتفاظ غير القانوني وغير المصرح به لعدد من الموقوفين مدّة أيام عديدة لتمكين "الباحثين" من القيام باستنطاقاتهم، عن طريق العضلات المفتولة، دون خشية من العقاب، للتحصّل على اعترافات ملفقة.
كما تألق المحامون خلال جلسة 4 ديسمبر 2008 بمعرفتهم الكاملة بقوانين البلاد، لكنّهم أبهروا الحضور بسموّ مشاعرهم الإنسانية عندما تدخلوا على التوالي لتقديم طلباتهم الأولية في الإفراج عن المعتقلين وتأجيل المحاكمة.
ومن بين المرافعات التي كان لها وقع خاص في النفوس، مرافعة المحامي الشاب الأستاذ الناصر العويني الذي طالب "برفع الحصار الأمني المضروب منذ أشهر طويلة على سكان مدينة الرديف"، وتوجه بنداء مثير إلى أعضاء المحكمة كي يطلقوا سراح الموقوفين ويسمحوا لهم "ككل الناس" من قضاء عيد الإضحى بين أهلهم وذويهم ! فانهارت أمهات الموقوفين وزوجاتهم وبناتهم بكاءً من شدة التأثر، بل حتى أحد أعوان الأمن المتواجدين، فقد شوهد يذرف دمعة أمام هذه الشحنة من التأثر الذي غمر قاعة المحكمة.
فهل فقد الحكام إحساسهم تجاه هذا الفيض من المشاعر الإنسانية رغم تفاعلهم الباطن ؟ لا أحد يستطيع أن يؤكد ذلك ! أم أنهم تأثروا بما أبداه المحامون من إجماع رائع فراودتهم رغبة الاستجابة إلى مطالبهم المشروعة رغم تحفظهم الظاهري ؟ لا أحد يعرف !
لكن الواقع جاء مع الأسف ليجيب عن ذلك : إذ أن المحكمة قضت، بعد المفاوضة، بالإفراج المؤقت عن ثمانية موقوفين، لكنها رفضت إطلاق سراح أبرز المعتقلين.
هل هو من باب الأوهام أن ننتظر محاكمة عادلة وأحكاما منصفة من قبل محكمة يبدو أنها لا تتمتع بحرية كاملة للبت في مثل هذه القضايا ؟ أليس من الأجدر أن نتوجه إلى الذين بيدهم سلطة القرار لنقول لهم :
" لا ترتكبوا خطأ إدانة هؤلاء الأبرياء الذين يثق فيهم أهالي الحوض المنجمي، أصحاب العزة والكرامة، والذين يتمتعون بمساندة قوى التقدم والديمقراطية في بلادنا ! تصوّروا وقع ذلك في نفوس أنصار العدل والحرية، نساءً ورجالا، في تونس وفي العالم ! لا تستهينوا بقدرتهم جميعا على التجنّد ولا تبالغوا في تقديركم لـ"منافع" الحلول الأمنية القصيرة النظر ! بل تحلّوا بالشجاعة والحكمة في تخليكم عن الأساليب القمعية، وتوخي طريق الحوار والتشاور لمعالجة المشاكل الحقيقية في اتجاه التهدئة وبناء عدالة اجتماعية حقيقية مبنية على توزيع عادل لما ينتجه الكادحون في هذا البلد من خيرات ! "
جنيدي عبد الجوّاد
تونس في 5 ديسمبر 2008
______________________________________________________________(*) من المعلوم أن المحكمة أصدرت، يوم الخميس 11 ديسمير 2008 ليلا، في ظروف مخالفة تماما لمقتضيات القانون، أحكاما في منتهى القسوة وصلت حد 10 سنوات وشهر سجنا في حق عدنان الحاجي وبشير العبيدي والطيب بن عثمان وطارق حليمي وعادل جيار حضوريا مع النفاذ العاجل، وحسن بن عبد الله وماهر فجراوي غيابي

ليست هناك تعليقات: